فصل: تفسير الآيات رقم (45 - 49)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 49‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ أي‏:‏ شاهدا للرسل بالتبليغ، ومبشرا لمن آمن بالجنة، ونذيرا لمن كذب بآياتنا بالنار‏.‏ ‏{‏وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ‏}‏ إلى توحيده وطاعته، ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بأمره، ‏{‏وَسِرَاجًا مُنِيرًا‏}‏ سماه سراجًا لأنه يهتدي به كالسراج يستضاء به في الظلمة‏.‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ذكرنا تفسيره في أول السورة، ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ اصبر على أذاهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لا تجازهم عليه‏.‏ وهذا منسوخ بآية القتال‏.‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏ حافظًا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُم، الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ‏}‏ فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح، حتى لو قال لامرأة أجنبية‏:‏ إذا نكحتك فأنت طالق، وقال‏:‏ كل امرأة أنكحها فهي طالق، فنكح، لا يقع الطلاق‏.‏ وهو قول علي، وابن عباس، وجابر، ومعاذ، وعائشة، وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة، وشريح وسعيد بن جبير، والقاسم وطاووس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وسليمان بن يسار، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، وأكثر أهل العلم رضي الله عنهم، وبه قال الشافعي‏.‏

وروي عن ابن مسعود‏:‏ أنه يقع الطلاق، وهو قول إبراهيم النخعي، وأصحاب الرأي‏.‏

وقال ربيعة، ومالك، والأوزاعي‏:‏ إن عين امرأة يقع، وإن عم فلا يقع‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كذبوا على ابن مسعود، إن كان قالها فزلة من عالم في الرجل يقول‏:‏ إن تزوجت فلانة فهي طالق، يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن‏"‏، ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا الحسين بن محمد الديموري، أخبرنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري بمكة، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا أيوب بن سويد، أخبرنا ابن أبي ذئب عن عطاء، عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا طلاق قبل النكاح‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ تجامعوهن، ‏{‏فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا‏}‏ تحصونها بالأقراء والأشهر، ‏{‏فَمَتِّعُوهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ أعطوهن ما يستمتعن به‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا إذا لم يكن سمى لها صداقًا فلها المتعة، فإن كان قد فرض لها صداقًا فلها نصف الصداق ولا متعة لها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏"‏فنصف ما فرضتم‏"‏ ‏[‏البقرة – 237‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ هذا أمر ندب، فالمتعة مستحبة لها مع نصف المهر‏.‏

وذهب بعضهم إلى إنها تستحق المتعة بكل حال لظاهر الآية‏.‏

‏{‏وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏}‏ خلوا سبيلهن بالمعروف من غير ضرار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ مهورهن،

‏{‏وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ‏}‏ رد عليك من الكفار بأن تسبي فتملك مثل صفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه فولدت له إبراهيم، ‏{‏وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ‏}‏ يعني‏:‏ نساء قريش، ‏{‏وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ‏}‏ يعني‏:‏ نساء بني زهرة، ‏{‏اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ‏}‏ إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها‏.‏

وروى أبو صالح عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبني فأنزل الله هذه الآية فلم أحل له، لأني لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقاء، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل‏.‏

‏{‏وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏.‏ أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق، فأما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه‏.‏

واختلفوا في أنه هل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر‏؟‏

فذهب جماعة إلى أنه كان لا يحل له ذلك، لقوله‏:‏ ‏"‏وامرأة مؤمنة‏"‏، وأول بعضهم الهجرة في قوله‏:‏ ‏"‏اللاتي هاجرن معك‏"‏ على الإسلام، أي‏:‏ أسلمن معك‏.‏ فيدل ذلك على أنه لا يحل له نكاح غير المسلمة، وكان النكاح ينعقد ‏[‏في حقه‏]‏ بمعنى الهبة من غير ولي ولا شهود ولا مهر، وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم في النكاح لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ كالزيادة على الأربع، ووجوب تخيير النساء كان من خصائصه ولا مشاركة لأحد معه فيه‏.‏

واختلف أهل العلم في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة‏؟‏ فذهب أكثرهم إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، وهو قول سعيد بن المسيب، والزهري، ومجاهد، وعطاء، وبه قال ربيعة ومالك والشافعي‏.‏

وذهب قوم إلى أنه ينعقد بلفظ الهبة والتمليك، وهو قول إبراهيم النخعي، وأهل الكوفة‏.‏

ومن قال لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج اختلفوا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فذهب قوم إلى أنه كان ينعقد بلفظ الهبة، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏خالصة لك من دون المؤمنين‏"‏‏.‏

وذهب آخرون إلى أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج كما في حق الأمة لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا‏}‏ وكان اختصاصه صلى الله عليه وسلم في ترك المهر لا في لفظ النكاح‏.‏

واختلفوا في التي وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهل كانت عنده امرأة منهن‏؟‏‏.‏

فقال عبد الله بن عباس، ومجاهد‏:‏ لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، ‏[‏وقوله‏:‏ ‏"‏إن وهبت نفسها‏"‏ على طريق الشرط والجزاء‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها‏]‏ فقال الشعبي‏:‏ هي زينب بنت خزيمة الهلالية، يقال لها‏:‏ أم المساكين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هي ميمونة بنت الحارث‏.‏

وقال علي بن الحسين، والضحاك ومقاتل‏:‏ هي أم شريك بنت جابر من بني أسد‏.‏

وقال عروة بن الزبير‏:‏ هي خولة بنت حكيم من بني سليم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أوجبنا على المؤمنين، ‏{‏فِي أَزْوَاجِهِمْ‏}‏ من الأحكام أن لا يتزوجوا أكثر من أربع ولا يتزوجوا إلا بولي وشهود ومهر، ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما أوجبنا من الأحكام في ملك اليمين، ‏{‏لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ‏}‏ وهذا يرجع إلى أول الآية أي‏:‏ أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لك لكي لا يكون عليك حرج وضيق‏.‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏تُرْجِي‏}‏ أي‏:‏ تؤخر، ‏{‏مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي‏}‏ أي‏:‏ تضم، ‏{‏إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ‏}‏

اختلف المفسرون في معنى الآية‏:‏ فأشهر الأقاويل أنه في القسم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن

في القسم كانت واجبًا عليه، فلما نزلت هذه الآية سقط عنه وصار الاختيار إليه فيهن‏.‏

قال أبو رزين، وابن زيد نزلت هذه الآية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا حتى نزلت آية التخيير، فأمره الله عز وجل أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة وأن يخلي سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله والدار الآخرة، على أنهن أمهات المؤمنين ولا ينكحن أبدًا، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن، ويرجي من يشاء، فيرضين به قسم لهن أو لم يقسم، أو قسم لبعضهن دون بعض، أو فضل بعضهن في النفقة والقسمة، فيكون الأمر في ذلك إليه يفعل كيف يشاء، وكان ذلك من خصائص فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط‏.‏

واختلفوا في أنه هل أخرج أحدًا منهم عن القسم‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ لم يخرج أحدًا، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - مع ما جعله الله له من ذلك - يسوي بينهن في القسم إلا سودة فإنها رضيت بترك حقها من القسم، وجعلت يومها لعائشة‏.‏

وقيل‏:‏ أخرج بعضهن‏.‏

روى جرير عن منصور عن أبي رزين قال‏:‏ لما نزل التخيير أشفقن أن يطلقهن، فقلن‏:‏ يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فأرجى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وآوى إليه بعضهن، وكان ممن آوى إليه عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فكان قسم بينهن سواء، وأرجى منهن خمسا‏:‏ أم حبيبة، وميمونة، وسودة، وصفية وجويرية، فكان يقسم لهن ما شاء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏"‏ترجي من تشاء منهن‏"‏ يعني‏:‏ تعزل من تشاء منهن بغير طلاق، وترد إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء‏.‏

وقال الحسن‏:‏ تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء أمتك‏.‏

وقال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره خطبتها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن سلام، أخبرنا ابن فضيل، أخبرنا هشام عن أبيه قال‏:‏ كانت خولة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة‏:‏ أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل‏؟‏ فلما نزلت‏:‏ ‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ‏}‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ‏}‏ أي‏:‏ طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن القسم، ‏{‏فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ‏}‏ لا إثم عليك، فأباح الله له ترك القسم لهن حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها، ويرد إلى فراشه من عزلها تفضيلا له على سائر الرجال، ‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ‏}‏ أي‏:‏ التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أقرب إلى رضاهن وأطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن إذا علمن أن ذلك من الله عز وجل، ‏{‏وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ‏}‏ أعطيتهن، ‏{‏كُلُّهُنَّ‏}‏ من تقرير وإرجاء وعزل وإيواء، ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ من أمر النساء والميل إلى بعضهن، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء، مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ قرأ أبو عمرو ويعقوب‏:‏ ‏"‏لا تحل‏"‏ بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، ‏"‏من بعد‏"‏‏:‏ يعني من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن فاخترنك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خيرهن فاخترن الله ورسوله شكر الله لهن وحرم عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن، هذا قول ابن عباس وقتادة‏.‏

واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد‏؟‏

قالت عائشة‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء سواهن‏.‏

وقال أنس‏:‏ مات على التحريم‏.‏

وقال عكرمة، والضحاك‏:‏ معنى الآية لا يحل لك النساء إلا اللاتي أحللنا لك وهو قوله‏:‏ ‏"‏إنا أحللنا لك أزواجك‏"‏ الآية، ثم قال‏:‏ ‏"‏لا يحل لك النساء من بعد‏"‏، إلا التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها‏.‏

وقيل لأبي بن كعب‏:‏ لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم أكان يحل له أن يتزوج‏؟‏ قال‏:‏ وما يمنعه من ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏لا يحل لك النساء من بعد‏"‏، قال‏:‏ إنما أحل الله له ضربًا من النساء، فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزوجك‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏لا يحل لك النساء من بعد‏"‏‏.‏

قال أبو صالح‏:‏ أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية، ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخالة إن شاء ثلاثمائة‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا أن تبدل بهن، يقول‏:‏ ولا أن تبدل بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى، يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية، إلا ما ملكت يمينك، أحل له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يتسرى بهن‏.‏

وروي عن الضحاك‏:‏ يعني ولا أن تبدل بهن ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حيالك أزواجًا غيرهن بأن تطلقهن فتنكح غيرهن، فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين، وحرمهن على غيره حين اخترنه، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه‏.‏

وقال ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم، يقول الرجل للرجل‏:‏ بادلني بامرأتك، وأبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ‏}‏ يعني لا تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجك وتأخذ زوجته، إلا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبدل بجاريتك ما شئت، فأما الحرائر فلا‏.‏

وروي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال‏:‏ دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وسلم بغير أذن، وعنده عائشة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا عيينه فأين الاستئذان‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال‏:‏ من هذه الحميراء إلى جنبك‏؟‏ فقال‏:‏ هذه عائشة أم المؤمنين، فقال عيينة‏:‏ أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله قد حرم ذلك‏"‏، فلما خرج قالت عائشة‏:‏ من هذا يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هذا أحمق مطاوع وإنه على ما ترين لسيد قومه‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ ليس لك أن تطلق أحدًا من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد جعفر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها فنهي عن ذلك‏.‏

‏{‏إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ملك بعد هؤلاء مارية‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا‏}‏ حافظًا‏.‏

وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء‏.‏ روي عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا محمد بن محمد بن علي بن شريك الشافعي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم، أخبرنا أبو بكر الجوربذي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن حرب، أخبرنا أبو معاوية، عن عاصم هو ابن سليمان، عن بكر بن عبد الله، عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ خطبت امرأة، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هل نظرت إليها‏؟‏ ‏"‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد ابن محمد، أخبرنا بشر بن موسى، أخبرنا الحميدي، أخبرنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏انظر إليها فإن في أعين نساء الأنصار شيئا‏"‏ قال الحميدي‏:‏ يعني الصغر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا يحيى بن بكير، أخبرنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني أنس ابن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال‏:‏ وكانت أم هانئ تواظبني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، فكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروسًا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام النبي لله فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت حتى جاء حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يخرجوا، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجعت معه حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم قد خرجوا فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه الستر، وأنزل الحجاب‏.‏

وقال أبو عثمان - واسمه الجعد - عن أنس قال‏:‏ فدخل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة، وهو يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ‏}‏‏.‏

وروي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ إلا أن تدعوا، ‏{‏إِلَى طَعَامٍ‏}‏ فيؤذن لكم فتأكلونه، ‏{‏غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ‏}‏ غير منتظرين إدراكه ووقت نضجه، يقال‏:‏ أنى الحميم‏:‏ إذا انتهى حره، وإنَى أن يفعل ذلك‏:‏ إذا حان، إنى بكسر الهمزة مقصورة، فإذا فتحتها مددت فقلت الإناء، وفيه لغتان إنى يأنى، وآن يئين، مثل‏:‏ حان يحين‏.‏

‏{‏وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ‏}‏ أكلتم الطعام، ‏{‏فَانْتَشِرُوا‏}‏ تفرقوا واخرجوا من منزله، ‏{‏وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ‏}‏ ولا طالبين الأنس للحديث، وكانوا يجلسون بعد الطعام يتحدثون طويلا فنهوا عن ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء‏.‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ‏}‏ أي‏:‏ من وراء ستر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة، ‏{‏ذَلِكُمْ أَطْهَر، لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ‏}‏ من الريب‏.‏

وقد صح في سبب نزول آية الحجاب ما أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا يحيى بن بكير، أخبرنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء، وكانت امرأة طويلة فناداها عمر‏:‏ ألا قد عرفناك يا سودة - حرصًا على أن ينزل الحجاب - فأنزل الله تعالى آية الحجاب‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب ابن أحمد الطوسي، أخبرنا عبد الرحيم بن منيب، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد، عن أنس قال‏:‏ قال عمر‏:‏ وافقني ربي في ثلاث قلت‏:‏ يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏"‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏"‏، وقلت‏:‏ يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب‏؟‏ فأنزل الله آية الحجاب، قال‏:‏ وبلغني بعض ما آذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه، قال‏:‏ فدخلت عليهن استقربهن واحدة واحدة، قلت‏:‏ والله لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن، حتى أتيت على زينب فقالت‏:‏ يا عمر ما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، قال‏:‏ فخرجت فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن‏"‏ ‏[‏التحريم - 5‏]‏، إلى آخر الآية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ‏}‏ ليس لكم أذاه في شيء من الأشياء، ‏{‏وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا‏}‏ نزلت في رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ لئن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكحن عائشة‏.‏

قال مقاتل بن سليمان‏:‏ هو طلحة بن عبيد الله، فأخبره الله عز وجل أن ذلك محرم وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ ذنبا عظيما‏.‏

وروى معمر عن الزهري، أن العالية بنت ظبيان التي طلق النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلا وولدت له، وذلك قبل تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏}‏ نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ قال رجل من الصحابة‏:‏ ما بالنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب‏:‏ ونحن أيضا نكلمهن من وراء الحجاب‏؟‏ فأنزل الله‏:‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55 - 56‏]‏

‏{‏لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءَابَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء، ‏{‏وَلا نِسَائِهِنَّ‏}‏ قيل‏:‏ أراد به النساء المسلمات، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول عليهن، وقيل‏:‏ هو عام في المسلمات والكتابيات، وإنما قال‏:‏ ‏"‏ولا نسائهن‏"‏، لأنهن من أجناسهن، ‏{‏وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ‏}‏

واختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرمًا لها أم لا‏؟‏‏.‏

فقال قوم يكون محرمًا لقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ولا ما ملكت أيمانهن‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو كالأجانب، والمراد من الآية الإماء دون العبيد‏.‏

‏{‏وَاتَّقِينَ اللَّهَ‏}‏ أن يراكن غير هؤلاء، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ من أعمال العباد ‏{‏شَهِيدًا‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أراد إن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ ‏"‏يصلون‏"‏ يتبركون‏.‏

وقيل‏:‏ الصلاة من الله‏:‏ الرحمة، ومن الملائكة‏:‏ الاستغفار‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ ادعوا له بالرحمة، ‏{‏وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ حيوه بتحية الإسلام‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ صلاة الله‏:‏ ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة‏:‏ الدعاء‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا أبو سلمة، أخبرنا عبد الواحد بن زياد، أخبرنا أبو فروة، حدثني عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ‏[‏سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى‏]‏ يقول‏:‏ لقيني كعب بن عجرة فقال‏:‏ ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقلت‏:‏ بلى فاهدها لي، فقال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا‏:‏ يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليمان الزرقي أنه قال‏:‏ أخبرني أبو حميد الساعي أنهم قالوا‏:‏ يا رسول الله كيف نصلي عليك‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عمرو ومحمد بن عبد الرحمن النسوي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا محمد بن يعقوب، أخبرنا العباس بن محمد الدوري، أخبرنا خالد بن مخلد القطواني، أخبرنا موسى بن يعقوب، أخبرنا العباس بن كيسان، أخبرني عبد الله بن شداد، عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أخبرنا عبد الله ابن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرًا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، ‏[‏أخبرنا إبراهيم عبد الله الخلال‏]‏ أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشرى في وجهه، فقال‏:‏ ‏"‏إنه جاءني جبريل فقال‏:‏ ‏[‏إن ربك يقول‏]‏ أما يرضيك يا محمد أن لا يصل عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرًا ‏[‏ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا‏]‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن عاصم هو ابن عبيد الله قال‏:‏ سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر‏"‏‏.‏

حدثنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني، أخبرنا جناح بن يزيد المحاربي بالكوفة، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، أخبرنا بن حازم، أخبرنا عبد الله بن موسى وأبو نعيم، عن سفيان، عن عبيد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم اليهود والنصارى والمشركون‏.‏ فأما اليهود فقالوا عزيرا ابن الله، ويد الله مغلولة، وقالوا‏:‏ إن الله فقير، وأما النصارى فقالوا‏:‏ المسيح ابن الله، وثالث وثلاثة، وأما المشركون فقالوا‏:‏ الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه‏.‏

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقول الله سبحانه وتعالى‏:‏ شتمني عبدي، يقول‏:‏ اتخذ لله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد‏.‏

وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏"‏يؤذون الله‏"‏ يلحدون في أسمائه وصفاته‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هم أصحاب التصاوير‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن العلاء، أخبرنا ابن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، سمع أبا هريرة قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة‏"‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ‏"‏يؤذون الله‏"‏ أي‏:‏ يؤذون أولياء الله، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏واسئل القرية‏"‏ ‏[‏يوسف - 82‏]‏، أي‏:‏ أهل القرية‏.‏

وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وقال من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة‏"‏‏.‏

ومعنى الأذى‏:‏ هو مخالفة أمر الله تعالى وارتكاب معاصيه، ذكره على ما يتعارفه الناس بينهم، والله عز وجل منزه عن أن يلحقه أذى من أحد، وإيذاء الرسول، قال ابن عباس‏:‏ هو أنه شج في وجهه وكسرت رباعيته‏.‏ وقيل‏:‏ شاعر، ساحر، معلم، مجنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58 - 59‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا‏}‏ من غير أن علموا ما أوجب أذاهم، وقال مجاهد‏:‏ يقعون فيهم ويرمونهم بغير جرم، ‏{‏فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا‏}‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب ‏[‏وذلك أن ناسا من المنافقين‏]‏ كانوا يؤذونه ويشتمونه‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في شأن عائشة‏.‏

وقال الضحاك، والكلبي‏:‏ نزلت في الزناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة لأن زي الكل كان واحدًا، يخرجن في درع وخمار، الحرة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ الآية‏.‏ ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء فقال جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ‏}‏ جمع الجلباب، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار‏.‏

وقال ابن عباس وأبو عبيدة‏:‏ أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوهن بالجلابيب إلا عينا واحدة ليعلم أنهن حرائر‏.‏

‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ‏}‏ أنهن حرائر، ‏{‏فَلا يُؤْذَيْنَ‏}‏ فلا يتعرض لهن، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ قال أنس‏:‏ مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة، وقال يالكاع أتتشبهين بالحرائر، ألقي القناع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60 - 66‏]‏

‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ‏(‏62‏)‏ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ‏}‏ عن نفاقهم، ‏{‏وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ فجور، يعني الزناة، ‏{‏وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ بالكذب، وذلك أن ناسًا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون في الناس أنهم قتلوا وهزموا، ويقولون‏:‏ قد أتاكم العدو ونحوها‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كانوا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويفشون الأخبار‏.‏

‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏}‏ لنحرشنك بهم ولنسلطنك عليهم، ‏{‏ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا‏}‏ لا يساكنوك في المدينة ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏ حتى يخرجوا منها، وقيل‏:‏ لنسلنطك عليهم حتى تقتلهم وتخلي منهم المدينة‏.‏ ‏{‏مَلْعُونِينَ‏}‏ مطرودين، نصب على الحال، ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُوا‏}‏ وجدوا وأدركوا، ‏{‏أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا‏}‏ أي‏:‏ الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به‏.‏ ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ كسنة الله، ‏{‏فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ‏}‏ من المنافقين والذين فعلوا مثل فعل هؤلاء، ‏{‏وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاس، عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يعلمك أمر الساعة، ومتى يكون قيامها‏؟‏ أي‏:‏ أنت لا تعرفه، ‏{‏لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُون، قَرِيبًا‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ‏}‏

ظهرًا لبطن حين يسبحون عليها، ‏{‏يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا‏}‏ في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67 - 69‏]‏

‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا‏}‏ قرأ ابن عامر، ويعقوب‏:‏ ‏"‏ساداتنا‏"‏ بكسر التاء والأف قبلها على جمع الجمع، وقرأ الآخرون بفتح التاء بلا ألف قبلها، ‏{‏وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا‏}‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ أي‏:‏ ضعفي عذاب غيرهم، ‏{‏وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ قرأ عاصم‏:‏ كبيرا بالباء‏.‏ قال الكلبي‏:‏ أي‏:‏ عذابًا كثيرًا، وقرأ الآخرون بالثاء لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏"‏ ‏[‏البقرة – 161‏]‏، وهذا يشهد للكثرة، أي‏:‏ مرة بعد مرة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا‏}‏ فطهره الله مما قالوا‏:‏ ‏{‏وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا‏}‏ كريما ذا جاه، يقال‏:‏ وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه وقدر‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كان حظيًا عند الله لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ كان مستجاب الدعوة‏.‏

وقيل‏:‏ كان محببا مقبولا‏.‏

واختلفوا فيما أوذي به موسى‏:‏

فاخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة أخبرنا عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن موسى كان رجلا حييًا ستيرًا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة وإما آفة، وإن لله أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول‏:‏ ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا‏"‏ فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ إيذاؤهم إياه أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله، فبرأه الله مما قالوا‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملإ فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك، وأهلك قارون‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شعبة، عن الأعمش قال‏:‏ سمعت أبا وائل قال‏:‏ سمعت عبد الله قال‏:‏ قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل‏:‏ إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال‏:‏ ‏"‏يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ صوابًا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عدلا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ صدقًا‏.‏ وقيل‏:‏ مستقيمًا‏.‏ وقال عكرمة هو‏:‏ قول لا إله إلا الله‏.‏ ‏{‏يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يتقبل حسناتكم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يزك أعمالكم، ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ ظفر بالخير كله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ‏}‏ الآية‏.‏ أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السموات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وهذا قول ابن عباس‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ الأمانة‏:‏ أداء الصلوات، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وصدق الحديث، وقضاء الدين، والعدل في المكيال والميزان، وأشد من هذا كله الودائع‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الأمانة‏:‏ الفرائض، وقضاء الدين‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ ما أمروا به ونهوا عنه‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو الصوم، والغسل من الجنابة، وما يخفى من الشرائع‏.‏

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال‏:‏ هذه أمانة استودعتكها، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هي أمانات الناس والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن أن لا يغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السموات والأرض والجبال، هذا قول ابن عباس وجماعة من التابعين وأكثر السلف، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها‏؟‏ قلن‏:‏ وما فيها‏؟‏ قال‏:‏ إن أحسنتن جوزيتن وإن عصيتن عوقبتن، فقلن‏:‏ لا يا رب، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابًا ولا عقابًا، وقلن ذلك خوفًا وخشيةً وتعظيمًا لدين الله أن لا يقوموا بها لا معصية ولا مخالفة، وكان العرض عليهن تخييرًا لا إلزامًا ولو ألزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله عز وجل مطيعة ساجدة له كما قال جل ذكره للسموات والأرض‏:‏ ‏"‏ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين‏"‏ ‏[‏فصلت - 11‏]‏، وقال للحجارة‏:‏ ‏"‏وإن منها لما يهبط من خشية الله‏"‏ ‏[‏البقرة - 74‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب‏"‏ ‏[‏الحج - 18‏]‏ الآية‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ ركب الله عز وجل فيهن العقل والفهم حين عرض الأمانة عليهن حتى علقن الخطاب وأجبن بما أجبن‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المراد من العرض على السموات والأرض هو العرض على أهل السموات والأرض، عرضها على من فيها من الملائكة‏.‏

وقيل‏:‏ على أهلها كلها دون أعيانها، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏واسئل القرية‏"‏ ‏[‏يوسف - 82‏]‏، أي‏:‏ أهل القرية‏.‏ والأول أصح وهو قول العلماء‏.‏

‏{‏فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب، ‏{‏وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ‏}‏ يعني‏:‏ آدم عليه السلام، فقال الله لآدم‏:‏ إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها‏؟‏ قال‏:‏ يا رب وما فيها‏؟‏ قال إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحملها آدم، وقال‏:‏ بين أذني وعاتقي، قال الله تعالى‏:‏ أما إذا تحملت فسأعينك، أجعل لبصرك حجابًا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فارخ عليه حجابه، واجعل للسانك لحيين غلقًا فإذا غشيت فأغلق، واجعل لفرجك لباسًا فلا تكشفه على ما حرمت عليك‏.‏

قال مجاهد‏:‏ فما كان بين أن تحملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ مثلت الأمانة كصخرة ملقاة، ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها، وقالوا‏:‏ لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال‏:‏ لو أمرت بحملها لحملتها، فقلن له‏:‏ احملها، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له‏:‏ احملها فحملها إلى حقوه، ثم وضعها، وقال‏:‏ والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها فقال الله‏:‏ مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ظلومًا لنفسه جهولا بأمر الله وما احتمل من الأمانة‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ ظلومًا حين عصى ربه، جهولا لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ظلومًا لنفسه جهولا بعاقبة ما تحمل‏.‏

وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني، في قوله وحملها الإنسان قولان، فقالوا‏:‏ إن الله ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء، فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا في الطاعة والقيام بالفرائض، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقهن له‏.‏ وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا‏}‏ أي‏:‏ أدين الأمانة، يقال‏:‏ فلان لم يتحمل الأمانة أي‏:‏ لم يخن فيها وحملها الإنسان أي‏:‏ خان فيها، يقال‏:‏ فلان حمل الأمانة أي‏:‏ أثم فيها بالخيانة‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وليحملن أثقالهم‏"‏ ‏[‏العنكبوت - 13‏]‏، إنه كان ظلومًا جهولا‏.‏ حكى عن الحسن على هذا التأويل‏:‏ أنّه قال وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق، حملا الأمانة أي‏:‏ خانا‏.‏ وقول السلف ما ذكرنا‏.‏

‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ‏}‏ قال‏:‏ مقاتل‏:‏ ليعذبهم بما خانوا الأمانة ونقضوا الميثاق، ‏{‏وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ أي‏:‏ عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه، أي‏:‏ يعود عليه بالرحمة والمغفرة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات‏.‏

سورة سبأ

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ ملكًا وخلقًا، ‏{‏وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ‏}‏ كما هو له في الدنيا، لأن النعم في الدارين كلها منه‏.‏

وقيل‏:‏ الحمد لله في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن‏"‏ ‏[‏فاطر - 34‏]‏، و‏"‏الحمد لله الذي صدقنا وعده‏"‏ ‏[‏الزمر - 74‏]‏‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ يدخل فيها من الماء والأموات، ‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ من النبات والأموات إذا حشروا، ‏{‏وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ من الأمطار، ‏{‏وَمَا يَعْرُجُ‏}‏ يصعد، ‏{‏فِيهَا‏}‏ من الملائكة وأعمال العباد، ‏{‏وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 6‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام‏:‏ ‏"‏عالمُ‏"‏ بالرفع على الاستئناف، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب، أي‏:‏ وربيّ عالم الغيب، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏عَلامِ‏"‏ على وزن فعال، وجر الميم‏.‏ ‏{‏لا يَعْزُبُ‏}‏ لا يغيب، ‏{‏عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ‏}‏ وزن ذرة ‏{‏فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ من الذرة، ‏{‏وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ‏}‏ يعني‏:‏ الذين آمنوا، ‏{‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ حسن، يعني‏:‏ في الجنة‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ‏}‏ يحسبون أنهم يفوتوننا، ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ‏}‏ قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب‏:‏ ‏"‏أليمٌ‏"‏ بالرفع هاهنا وفي الجاثية على نعت العذاب، ‏[‏وقرأ الآخرون بالخفض على نعت الرجز، وقال قتادة‏:‏ الرجز سوء العذاب‏]‏‏.‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ ويرى الذين‏]‏، ‏{‏أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ يعني‏:‏ مؤمني أهل الكتاب‏:‏ عبد الله ابن سلام وأصحابه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏الَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ‏}‏ يعني‏:‏ أنه من عند الله، ‏{‏وَيَهْدِي‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ وهو الإسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 10‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ منكرين للبعث متعجبين منه‏:‏ ‏{‏هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ‏}‏ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، ‏{‏إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ قطعتم كل تقطيع وفرقتم كل تفريق وصرتم ترابا ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ يقول لكم‏:‏ إنكم لفي خلق جديد‏.‏ ‏{‏أَافْتَرَى‏}‏ ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ولذلك نصبت، ‏{‏عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ يقولون‏:‏ أزعم كذبا أم به جنون‏؟‏‏.‏

قال الله تعالى ردا عليهم‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ‏}‏ من الحق في الدنيا‏.‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها، وأنا القادر عليهم، ‏{‏إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ‏}‏ قرأ الكسائي‏:‏ ‏"‏نخسف بهم‏"‏ بإدغام الفاء في الباء، ‏{‏أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏إن يشأ يخسف أو يسقط‏"‏، بالياء فيهن لذكر الله من قبل، وقرأ الآخرون بالنون فيهن، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ فيما ترون من السماء والأرض، ‏{‏لآيَةً‏}‏ تدل على قدرتنا على البعث، ‏{‏لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ‏}‏ تائب راجع إلى الله بقلبه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا‏}‏ يعني النبوة والكتاب، وقيل‏:‏ الملك‏.‏ وقيل‏:‏ جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به، ‏{‏يَا جِبَالُ‏}‏ أي‏:‏ وقلنا يا جبال، ‏{‏أَوِّبِي‏}‏ أي‏:‏ سبحي، ‏{‏مَعَهُ‏}‏ إذا سبح، وقيل‏:‏ هو تفعيل من الإياب وهو الرجوع، أي‏:‏ رجِّعي معه وقال القتيبي‏:‏ أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا كأنه قال أوِّبي النهار كله بالتسبيح معه‏.‏ وقال وهب‏:‏ نوحي معه‏.‏

‏{‏وَالطَّيْرَ‏}‏ عطف على موضع الجبال، لأن كل منادى في موضع النصب‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ وسخرنا وأمرنا الطير أن تسبح معه، وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏والطّيرُ‏"‏ بالرفع ردا على الجبال، أي‏:‏ أوبي أنت والطير‏.‏ وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح‏.‏

وقيل‏:‏ كان داود عليه السلام إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له‏.‏ ‏{‏وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ‏}‏ حتى كان الحديد في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة‏.‏

وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار‏:‏ أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه تقدم إليه وسأله عن داود ويقول له‏:‏ ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو‏؟‏ فيثنون عليه، ويقولون خيرا، فقيض الله له ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله، فقال الملك‏:‏ نعم الرجل هو لولا خصلة فيه، فراع داود ذلك وقال‏:‏ ما هي يا عبد الله‏؟‏ قال‏:‏ إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال، قال فتنبه لذلك وسأل الله أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال، فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله تعالى له الحديد وعلمه صنعة الدرع، وإنه أول من اتخذها‏.‏ ويقال‏:‏ إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم، فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين‏.‏

ويقال إنه كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم، فينفق ألفين منها على نفسه وعياله، ويتصدق بأربعة آلاف على فقراء بني إسرائيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ‏}‏ دروعا كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض، ‏{‏وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ‏}‏ والسرد نسج الدروع، يقال لصانعه‏:‏ السراد والزراد، يقول‏:‏ قدر المسامير في حلق الدرع

أي‏:‏ لا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا غلاظا فتكسر الحلق، ويقال‏:‏ ‏"‏السرد‏"‏ المسمار في الحلقة، يقال‏:‏ درع مسرودة أي‏:‏ مسمورة الحلق، وقدر في السرد اجعله على القصد وقدر الحاجة، ‏{‏وَاعْمَلُوا صَالِحًا‏}‏ يريد‏:‏ داود وآله، ‏{‏إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 13‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ‏}‏ أي‏:‏ وسخرنا لسليمان الريح، وقرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ الريح بالرفع أي‏:‏ له تسخير الريح، ‏{‏غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏ أي‏:‏ سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر، وسير رواحها مسيرة شهر، وكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين‏.‏

قال الحسن‏:‏ كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقند‏.‏ ‏{‏وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ‏}‏ أي‏:‏ أذبنا له عين النحاس، و‏"‏القطر‏"‏‏:‏ النحاس‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ بأمر ربه، قال ابن عباس‏:‏ سخر الله الجن لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، ‏{‏وَمَنْ يَزِغْ‏}‏ أي‏:‏ يعدل، ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من الجن، ‏{‏عَنْ أَمْرِنَا‏}‏ الذي أمرنا به من طاعة سليمان، ‏{‏نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ‏}‏ في الآخرة، وقال بعضهم‏:‏ في الدنيا وذلك أن الله عز وجل وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته‏.‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ‏}‏ أي‏:‏ مساجد، والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستخلصها له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثنى عشر ربضا، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط، وكانوا اثنى عشر سبطا، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عز وجل، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله عز وجل، وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا‏.‏

وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة، سأل حكما يصادف حكمه، فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون‏.‏ قد أعطاه ذلك‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة ‏[‏عجيبة‏]‏ من الصخر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَمَاثِيلَ‏}‏ أي‏:‏ كانوا يعملون له تماثيل، أي‏:‏ صورا من نحاس وصفر وشبة وزجاج ورخام‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يصورون السباع والطيور‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم، كما أن عيسى كان يتخذ صورا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرا ‏[‏بإذن الله‏]‏‏.‏ ‏{‏وَجِفَانٍ‏}‏ أي‏:‏ قصاع واحدتها جفنة، ‏{‏كَالْجَوَابِ‏}‏ كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي‏:‏ يجمع، واحدتها جابية، يقال‏:‏ كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ‏{‏وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ‏}‏ ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن، ولا ينزلن ولا يعطلنَّ، وكان يصعد عليها بالسلالم، وكانت باليمن‏.‏

‏{‏اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا‏}‏ أي‏:‏ وقلنا اعملوا آل داود شكرا، مجازه‏:‏ اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرًا له على نعمه‏.‏

‏{‏وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏ أي‏:‏ العامل بطاعتي شكرًا لنعمتي‏.‏

قيل‏:‏ المراد من ‏"‏آل داود‏"‏ هو داود نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ داود وسليمان وأهل بيته‏.‏

وقال جعفر بن سليمان‏:‏ سمعت ثابتًا يقول‏:‏ كان داود نبي الله عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ‏}‏ أي‏:‏ على سليمان‏.‏

قال أهل العلم‏:‏ كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يومًا إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة، فيسألها‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فتقول‏:‏ اسمي كذا، فيقول‏:‏ لأي شيء أنت‏؟‏ فتقول‏:‏ لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كتب، حتى نبتت الخروبة، فقال لها‏:‏ ما أنت‏؟‏ قالت‏:‏ الخروبة، قال‏:‏ لأي شيء نبت‏؟‏ قالت‏:‏ لخراب مسجدك، فقال سليمان‏:‏ ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس‏!‏ فنزعها وغرسها في حائط له، ثم قال‏:‏ اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئًا على عصاه فمات قائمًا وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتًا فعلموا بموته‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ‏}‏ وهي الأرضة ‏{‏تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ‏}‏ يعني‏:‏ عصاه، قرأ أهل المدينة، وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏منساته‏"‏ بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز، وهما لغتان، ويسكن ابن عامر الهمز، وأصلها من‏:‏ نسأت الغنم، أي‏:‏ زجرتها وسقتها، ومنه‏:‏ نسأ الله في أجله، أي‏:‏ أخره‏.‏

‏{‏فَلَمَّا خَرَّ‏}‏ أي‏:‏ سقط على الأرض، ‏{‏تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ‏}‏ أي‏:‏ علمت الجن وأيقنت، ‏{‏أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ‏}‏ أي‏:‏ في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيًا، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب، لغلبة الجهل‏.‏ وذكر الأزهري‏:‏ أن معنى ‏"‏تبينت الجن‏"‏، أي‏:‏ ظهرت وانكشفت الجن للإنس، أي‏:‏ ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، وفي قراءة ابن مسعود، وابن عباس‏:‏ تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، أي‏:‏ علمت الإنس وأيقنت ذلك‏.‏

وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏تبينت‏"‏ بضم التاء وكسر الياء ‏[‏أي‏:‏ أعلمت الإنس الجن، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله، ‏"‏وتبين‏"‏ لازم ومتعد‏]‏‏.‏ وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ‏}‏ روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك العطيفي، قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلا أو امرأة أو أرضا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏كان رجلا من العرب وله عشرة من الولد، تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة، فأما الذين تيامنوا‏:‏ فكندة، والأشعريون، وأزد، ومذحج، وأنمار، وحمير، فقال رجل‏:‏ وما أنمار‏؟‏ قال الذين منهم خثعم وبجيلة‏:‏ وأما الذين تشاءموا‏:‏ فعاملة، وجذام، ولخم، وغسان، وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان‏"‏‏.‏ ‏{‏فِي مَسْكَنِهِمْ‏}‏ قرأ حمزة، وحفص‏:‏ ‏"‏مسكنهم‏"‏ بفتح الكاف، على الواحد، وقرأ الكسائي بكسر الكاف، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏مساكنهم‏"‏ على الجمع، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن، ‏{‏آيَةٌ‏}‏ دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسر الآية فقال‏:‏ ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ أي‏:‏ هي جنتان بستانان، ‏{‏عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ‏}‏ أي‏:‏ عن يمين الوادي وشماله‏.‏ وقيل‏:‏ عن يمين من أتاهم وشماله، وكان لهم واد قيل أحاطت الجنتان بذلك الوادي ‏{‏كُلُوا‏}‏ أي‏:‏ وقيل لهم كلوا، ‏{‏مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من ثمار الجنتين، قال السدي ومقاتل‏:‏ كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلىء مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئا بيدها، ‏{‏وَاشْكُرُوا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ على ما رزقكم من النعمة، والمعنى‏:‏ اعملوا بطاعته، ‏{‏بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ أرض سبأ بلدة طيبة ليست بسبخة، قال ابن زيد‏:‏ لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كله من طيب الهواء، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ طيبة الهواء، ‏{‏وَرَبٌّ غَفُورٌ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وربكم إن شكرتموه فيما رزقكم رب غفور للذنوب‏.‏ ‏{‏فَأَعْرَضُوا‏}‏ قال وهب‏:‏ فأرسل الله إلى سبأ ثلاثةً عشر نبيًا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم، وقالوا‏:‏ ما نعرف لله عز وجل علينا نعمة فقولوا لربكم فليحبس هذه النعم عنا إن استطاع، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ‏}‏ و‏"‏العرم‏"‏‏:‏ جمع عرمة، وهي السكر الذي يحبس به الماء‏.‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ ‏"‏العرم‏"‏ السيل الذي لا يطاق، وقيل‏:‏ كان ماء أحمر، أرسله الله عليهم من حيث شاء، وقيل‏:‏ ‏"‏العرم‏"‏‏:‏ الوادي، وأصله من العرامة، وهي الشدة والقوة‏.‏

وقال ابن عباس، ووهب، وغيرهما‏:‏ كان ذلك السد بنته بلقيس، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم، وهو المسناة بلغة حمير، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار وجعلت له أبوابًا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها، فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة فكانت تقسمه بينهم على ذلك، فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جرذًا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرب أرضهم‏.‏ قال وهب‏:‏ وكان مما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله عز وجل بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل، ففرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب، يقولون‏:‏ صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي‏:‏ تفرقوا وتبددوا، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ‏}‏ ‏{‏وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ‏}‏ قرأ العامة بالتنوين، وقرأ أهل البصرة‏:‏ ‏"‏أكل خمط‏"‏ بالإضافة، الأكل‏:‏ الثمر، والخمط‏:‏ الأراك وثمره يقال له‏:‏ البرير، هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

وقال المبرد والزجاج‏:‏ كل نبت قد أخذ طعمًا من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط‏.‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ الخمط‏:‏ ثمر شجرة يقال له فسوة الضبع، على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به، فمن جعل الخمط اسمًا للمأكول فالتنوين في ‏"‏أكل‏"‏ حسن، ومن جعله أصلا وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة، والتنوين سائغ، تقول العرب‏:‏ في بستان فلان أعناب كرم، يترجم الأعناب بالكرم لأنها منه‏.‏

‏{‏وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ‏}‏ فالأثل هو الطرفاء، وقيل‏:‏ هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه، والسدر شجر معروف، وهو شجر النبق ينتفع بورقه لغسل الرأس ويغرس في البساتين، ولم يكن هذا من ذلك، بل كان سدرًا بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقة لشيء‏.‏

قال قتادة‏:‏ كان شجر القوم من خير الشجر فصيره الله من شر الشجر بأعمالهم‏.‏